لم يكن محمد حسني مبارك يعلم أن رصاص المنصة الذي قضى على نظام الرئيس السادات، سينهي نظامه على سرير متحرّك ليمثل أمام ملايين المشاهدين له عبر الفضائيات في محاكمة القرن، إدانة له على جرائم؛ أهمها الأمر بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين والمطالبين بإسقاط نظامه، حيث أمر القضاء المصري أمس، بإيداعه مستشفى المركز الطبي العالمي بطريق الإسماعيلية الصحراوي، إلى حين محاكمته في جلسة ثانية في منتصف الشهر الجاري.
قتيل وخمسة عشر جريحا قبل متابعة محاكمة القرن
استفاقت مصر نهار أمس، باكرا جدا في انتظار أول جلسة في المحاكمة التاريخية للرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، حيث تجمهر العديد من مؤيدية ومعارضية بالقرب من أكاديمية الشرطة بالقاهرة ينتظرون وصوله إلى هناك، كل لغاية في نفسه، مما أفضى إلى اصطدامات بين الطرفين نجمت عنها حالة وفاة وأزيد من 15 جريحا، أنهتها الشرطة المصرية بشق الأنفس، خوفا من حدوث أي انزلاق أمني بالبلاد.
وفي حدود الثامنة حطّت طائرة خاصة بمبارك بمطار"المازة" العسكري بالقاهرة، قادمة بهمن مستشفى شرم الشيخ، لينقل بعدها إلى القاعة المخصصة لمحاكمته بأكاديمية الشرطة، التي كانت تحمل اسمه سابقا، وكان قد ألقى فيها آخر خطاب له في الثامن من فيفري السابق، ليمثل نهار أمس أمام المستشار رفعت أحمد كأي مواطن بسيط، ينتظر الرد على أسئلة هيئة المحكمة.
واستفتح المستشار رفعت أحمد الجلسة بتوجيه تنبيه لجميع الحضور في القاعة التي تضم 6 مائة من الحضور، بضرورة التزام الصمت وعدم التعليق، وإلا تعرضوا إلى السجن لمدة 24 ساعة، تحسّبا لأي تعليقات يمكن أن تصدر من الحضور بعد رؤية مبارك ونجليه ووزير الداخلية حبيب العادلي.
دخل الرئيس المخلوع قاعة المحكمة ومن ثم قفص الاتهام على نقالة طبية وهو في وضعية الاستلقاء، بلباس أبيض يدل في أعراف القانون المصري على أنه لم تسلط عليه أي عقوبة، وإن كانت تنتظره تهم ثقيلة مع بقية المتهمين، بينها اختلاس الأموال العامة وإصدار أوامر بقتل المتظاهرين المعارضين للنظام في أثناء ثورة جانفي والتي أدت إلى سقوط نحو 850 قتيل.
وكان إلى جانبه في ذات الزنزانات ولداة علاء مبارك وجمال مبارك، يترددان عليه من حين لأخر، وكان جمال ممسكا بمصحف بيده، وكان كلا منهما يهمس في أذن أبيه المستلقي على السرير، كلما تدخل الدفاع أو هيئة المحكمة، في ايماءة لأن مبارك لا يسمع ما كان يجري في المحكمة، على الرغم من أن كل الأقوال كانت تتم عبر الميكروفون، الذي كان يصر المستشار رفعت على استخدامه وإعادة نص الأقوال التي تمت خارجه.
فريق الدفاع يصر على استدعاء طنطاوي وعمر سليمان
وبدأت المحاكمة باستماع المحكمة لطلبات الدفاع عن المتهمين والمدعين بالحق المدني، حيث طالب محامو الدفاع التأجيل لاستدعاء الشهود، وطالبوا أيضا باستدعاء المشير محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس العسكري المصري واللواء عمر سليمان للشهادة أمام المحكمة. وانتقدوا أيضا ضم قضية مبارك إلى قضية العادلي معتبرين بعض التهم جنحا وليس جناية، وإيداع مبارك في مشفى سجن طرة، وكشف التسجيلات الهاتفية للمتهمين خلال أحداث الثورة. وطالب الفريق أيضا بتعويضات مالية لأسر ضحايا الثورة، وشهادات مسؤولين سابقين في التلفزيون المصري.
وقد دام تدخل فريق الدفاع ما يقارب ساعة من الزمن، لم يغفل فيها المستشار رفعت طلب أي من المحامين، وإن كان البعض من التدخلات لا تليق بمستوى المحاكمة، من طلبات فردية وانتقادات في غير محلها، إلا أنها أخذت وقتها وكفايتها، وأكّد المستشار على تسلم كل هذه الطلبات عبر الأوراق التي حضرها المحامون، دون إغفال أي منها، قبل أن يستمع إلى النيابة العامة في التهم الموجهة إلى مجموع المتهمين وعلى رأسهم الرئيس السابق حسني مبارك.ومن ثم قرر القاضي رفع الجلسة للاستراحة.
مبارك ينفي التهم كاملة، وجمال كلّها وعلاء جميعها
استأنفت المحكمة الجلسة، بعد استراحة قصيرة، حيث تلا ممثل الادعاء العام الاتهامات الموجهة إلى مبارك ونجليه وحبيب العادلي وحسين سالم، وتضمنت التهم الموجهة إلى مبارك، من بين ما تضمنته، إصدار أوامر للعادلي من منصبه وزيرا للداخلية بقتل المتظاهرين واختلاس وإهدار أموال عامة وبيع الغاز لاسرائيل بسعر متدن وغيرها. ونفى الرئيس المخلوع ونجلاه جميع التهم الموجهة إليهم بشكل تام.
وكانت اللحظة التي انتظرها جميع المصريون منذ مطالبتهم أيام ميدان التحرير بمحاكمة مبارك، أن يمثل أمام هيئة المحكمة، بعيدا عن أي عنفوان أو تعال، منسلخا من ثوب الرئاسة الذي لزمه ثلاثين سنة، ويجيب عن أسئلة محاكميه كما ينبغي لأي متهم أن يلتزم أمام المحاكم العامة.
وتوجّه رئيس هيئة المحكمة المستشار رفعت أحمد للرئيس السابق بالرد على التهم الموجهة إليه، وجاء رد مبارك، بعد أن نادى عليه المستشار "أفندم أنا موجود"، قائلا "سمعت الاتهامات التي أسندتها النيابة العامة إلي، وكل هذه الاتهامات أنا أنكرها كاملة"، ولم يتسن لمبارك الرد على هذا السؤال إلا بعد أن أعاده عليه ابنه بهمسة في أذنه اليمنى.
وجاء رد علاء مبارك "أنكرها جميعا تماما"، هذا الأخير لم يجب على السؤال إلا بعد أن نهره المستشار وأمره بضرورة التقدم إلى القفص لدى تحدثه إليه، ووافقت إجابة جمال بقية الإجابات بالقول "أنكرها كلّها تماما"، في لغة مصرّة على التوحد، خوفا من مغبة الأحكام الثقيلة التي تنتظرهم، إن ثبتت التهم الموجهة إليهم.
وبعد رفع الجلسة وإجراء المداولة، جاء قرار هيئة المحكمة في ثلاث نقاط أساسية، تصوير صفحات الاستماع إلى المتهم الرابع جمال حسني مبارك التي أديرت في محكمة استئناف القاهرة، نظرا لسقوطها من ملفات القضية، وثانيا إيداع المتهم محمد حسني مبارك مستشفى المركز الطبي العالمي بطريق الإسماعيلية الصحراوي، بدلا من شرم الشيخ، والسماح للفريق الطبي برئاسة ياسر صلاح عبد القادر المختص في الأورام بمعاينته متى تطلبت الضرورة ذلك، والفصل بين القضيتين الخاصة بالرئيس المخلوع مبارك وابنيه، ووزير الداخلية السابق حبيب العادلي وستة من معاونيه.
وتقرر تحديد الجلسة القادمة لحسني مبارك وابنيه في الخامس عشر من هذا الشهر، في حين ستتجدد المحاكمة لحبيب العادلي لنهار اليوم.
أصداء المحاكمة
*لم يفلح دفاع الطرف المدني في الالتفاف حول قضيته، حيث كان المحامون يأتي الواحد منهم يدافع عن شخص وعن شخصين وعن عشرة، للمطالبة بديتهم، مما ميّع حضورهم أمام رئيس الجلسة، وصار يطالبهم بالاختصار وتحويل الميكروفون إلى التالي، لربح الوقت لمتابعة المحاكمة.
*فاجأ احد الحضور من المحامين أن الموجود في قفص الاتهام ما هو إلا شخص ينتحل شخصية الرئيس وقد اغتيل في 2004، وهذا يدخل في إطار مخطط اسرائيلي أمريكي، دفع برئيس الجلسة إلى سحب الميكروفون منه، كعلامة على انه شرع في الهذيان على الملأ.
*خرج أحد المحامين في هيئة الدفاع عن صلب الموضوع الذي جاء من اجله وهي الدفاع عن موكله، ونصّب نفسه حكما على الحضور ليلقي عليهم محاضرة بشأن الرئيس المخلوع، وصفه فيها بالسفاح، وتاليا قوله تعالى "إن فرعون علا في الأرض"، وكانت النتيجة أن علق عليه رئيس الجلسة "لست بصدد إلقاء محاضرة، قل ما جئت من أجله".
*لم يفهم أحد لحد الآن لما كان ابن مبارك علاء يحمل مصحفا بين يديه، ولزمه طيلة المحاكمة، التي مضت عليه هو وأخوه جمال بما يشبه الصفا والمروى على سرير أبيهما، وسط دهشة كانت تعلو محياهما، وإعياء طبع وجه مبارك.
عرف بانتصاره للشعب في قضيتي "التنظيم القطبي" و"الآثار الكبرى"
القاضي أحمد فهمي رفعت وقف بالمرصاد لمبارك ورجاله.. فهل سيكمل المشوار
"أنا أحكم من خلال الأسانيد والأوراق والبراهين، والرأي العام لن يعفيني عند مقابلة رب كريم"، "كل القضايا واحدة أمام القضاء"، هي عبارات اشتهر بها المستشار أحمد فهمي رفعت، رئيس محكمة جنايات شمال القاهرة، حيث كان يكتبها دائما بعد كل حكم ينطق به، فهل سيكرر نطقها في محاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بعد توليه القضية..
المستشار أحمد فهمي رفعت، الذي اختارته محكمة استئناف القاهرة، في قضية محاكمة القرن، والمتعلقة بمحاكمة الرئيس السابق محمد حسني مبارك، ونجليه علاء وجمال، ورجل الأعمال الهارب حسين سالم، وكذا وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي وستة من القيادات السابقة في وزارة الداخلية، هو أحمد فهمي رفعت ابن المهندس فهمي رفعت، من أوائل الذين عملوا في بناء السد العالي، وهو شقيق عصام رفعت رئيس تحرير مجلة الأهرام الاقتصادي السابق، المستشار رفعت نظر في العديد من قضايا المشاهير، يصفونه بالحازم والصارم في إجراءاته ومتخصص في قضايا الأموال العامة، اشتهر بمقولة "إحنا على منصة مش على خشبة مسرح"، سبق وأن فصل في قضايا عدة منها، الإماراتي قاتل فتاة مصر الجديدة، كما أخلى سبيل 16 من المتهمين من قيادات الإخوان المحبوسين على ذمة قضية ما بات يعرف بـ"التنظيم القطبي" وعلى رأسهم الدكتور محمود عزت، نائب مرشد الإخوان، كما نظر في قضية بنك مصر إكستريور، والذي اتهم فيها عبد الله طايل، رئيس مجلس الإدارة السابق، و18 آخرين من كبار موظفي البنك ورجال الأعمال بالاستيلاء وتسهيل الاستيلاء على المال العام وغسل الأموال والتزوير، وأصدر فيها أحكاما مشددة، كما نظر في القضية المعروفة بـ"قضية الآثار الكبرى".
أحمد فهمي رفعت، يشهد له التاريخ والشعب المصري، أنه رجل مواقف بامتياز، لعل آخرها تنحيه عن التحقيق مع المستشارين هشام البسطويسي ومحمود مكي، نائبي رئيس محكمة النقض، بعد أن أحالهما وزير العدل في نظام مبارك، ممدوح مرعي للتحقيق بعد أن أكدا تزوير الانتخابات البرلمانية الأخيرة، من المنتظر أن يبلغ عامه السبعين في17من أكتوبر المقبل، ليصل بذلك إلى سن تقاعد القضاة المعمول به وفقا لآخر تعديل في قانون السلطة القضائية المصرية، حيث سيخرج للتقاعد في 30 سبتمبر المقبل، بعد أن نظر جلستين من جلسات محاكمة مبارك.
دلولة حديدان
الإعلامي المصري وائل الأبرشي لـ"الشروق":
"المحاكمة أعلنت نهاية إمبراطورية شرم الشيخ"
قال الإعلامي المصري الكبير وائل الأبرشي في تصريح للشروق، إن وضع الرئيس المخلوع حسني مبارك وراء القضبان، في جلسة علنية، وعلى الفضائيات، تعتبر ثورة أخرى مكلمة لثورة يناير، مضيفا أن المحاكمة جادة وقوية وشفافة أعادت الثقة بين المواطن المصري وقضائه بعدما كان يراها مجرد تمثيليات مسرحية.
وأكد الأبرشي أن جلسة الأمس، حققت ثلاثة مكاسب وانجازات كبرى، أهمها دخول حسني مبارك قفص الاتهام، وكذا نهاية إمبراطورية شرم الشيخ، خاصة بعد أمر القاضي بنقل الرئيس المخلوع من مستشفى شرم الشيخ إلى مستشفى بالإسماعيلية قريبا من القاهرة حتى لا تكون له حجة في التغيب عن باقي الجلسات، وثالث مكسب تحقق للمصريين حسب الأبرشي، هو السرعة في تطبيق القرارات، حيث تحددت جلسة اليوم لمحاكمة العادلي، و15 أوت الجاري لمحاكمة مبارك ونجليه.
أما عن تفاعل الشارع المصري مع المحاكمة، وكذا تعيين القاضي أحمد فهمي رفعت، للنظر في هذه القضية، فقد أكد أن الشارع تقبل هذا الاختيار وباركه لما للرجل من مواقف سابقة ضد النظام، مضيفا أن شباب الثورة رأى في المحاكمة انتصارا لحقّهم، وثورة من أجل العدالة، وكذا توجيه رسالة لكل طاغية ودكتاتور، وأوضح أن شباب يناير ارتاح لسقوط الحصانات في جلسة المحاكمة، وهو الأمر الذي كان غائبا لعقود في جلسات المحاكم المصرية.
فريدة لكحل/الوكالات
خذ العبرة يا بشار
العالم كله وقف مشدوها وهو يشاهد فرعون مصر يجرجر إلى محاكمة علنية عن الجرائم التي ارتكبها، والتي مهما كانت فادحة لا يمكن مقارنتها بما يرتكبه النظام السوري هذه الأيام ضد شعبه من قتل ومطاردة في الشوارع والطرقات والأرياف،
حسني مبارك يحاكم على بضع مئات من المتظاهرين سقطوا في المواجهات، كما يحاكم على صفقات مشبوهة استخدم فيها نفوذه كرئيس الجمهورية، ولم يشفع له انسحابه من الحكم وبقائه في مصر في الإفلات من المحاكمة والعقاب ، فهل يفلت بشار الأسد من العقاب وهو الذي حول المدن والقرى والأرياف إلى ساعة معركة ضد المتظاهرين العزل، بل وسلط إعلامه الثقيل والخفيف لكي يبرر هذه الجريمة البشعة بالقول إن الجيش العربي السوري يطارد عصابات إرهابية مسلحة.
إذا كان الرئيس المصري السابق مبارك هاجم المتظاهرين بالجمال والبغال، فإن الرئيس السوري يهاجم المحتجين المسالمين بالدبابات والمدافع وعصابات الشبيحة المسلحة، ويوقع المئات من القتلى والجرحى في مجازر يومية لم تشهد سوريا لها مثيل في تاريخها اللهم إلا تلك التي وقعها الأسد الأب حين دك مدينة حماه بالدبابات والمدافع وقتل الآلاف دون أن يعاقبه أحد.
أما اليوم فإن الأوضاع تغيرت وأصبح للشعوب كلمتها، حدث ذلك في تونس ومصر وليبيا واليمن وسيأتي اليوم الذي يكون فيه بشار الأسد وحاشيته ملزمون بالإجابة عن أسئلة الشعب حول المجازر المرتكبة في حق المتظاهرين المسالمين.
مشهد قوي ذلك الذي نقلته كل فضائيات العالم حول نهاية الديكتاتور حسني مبارك، فهل يأخد بشار الأسد منه العبرة ويسارع إلى حقن دماء بقايا السوريين، قبل أن يجرفه تيار الغضب نحو قفص مماثل للقفص الذي وضع فيه حسني مبارك وأبناؤه وحاشيته.