بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
يقول شاعر التورة الجزائرية مفدي زكريا
شربت العقيدة حتى الثمالــــة ....فأسلمت وجهي لـرب الجلالــه
ولولا الوفـاء لإسلامنــــا.... لمـا قرر الشعب يومـا مآلـــه
ولولا استقامــة أخلاقنــــا.... لمـا أخلص الشعب يوما نضالــه
هو الدين يغمـر أرواحنــا.... بنـور اليقيـن ويرسي العدالــه
إذا الشعب أخلـف عهد الإلــه.... وخـان العقيــدة فارقُب زواله
وهنا نجده يكرر الصورة نفسها في إلياذته بمناسبة الفاتح من نوفمبر إذ يقول :
ولعلع صـوت الرصاص يــدوّي.... فعـاف اليراع خـرافة حبـــر
وتأبى المــدافع صوغ الكلام.... إذا لم يكـن من شواظ وجمــر
وتأبى القنـابل طبع الحــروف.... إذا لم تكـن من سبائك حُمـــر
وتأبى الصفائح نشر الصحـائف ....ما لم تكــن بالقرارات تســري
ويأبـى الحديد استمـاع الحديث.... إذا لم يـكن من روائـع شعـري
نوفمبــر غيرت فجر الحيــاة ....وكنت نوفمبـر مطلـع فجــر.
اندلعت ثورة الفاتح نوفمبر 1954م التحريرية المنتصرة، ونحتفل في هذه الأيام بذكرى انبعاثها، فنخلد تضحيات شهدائها الأبطال، ونعبر عن الوفاء لأهدافها الرامية إلى بناء الجزائر حديثة تنعم بالحرية والاستقرار، وتتمتع بالاستقلال والسيادة، وتنطلق في سبيل الرقي لتحقيق ما ينبغي لها من التطور والنهضة في الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية...
وقد دامت ثورتنا النوفمبرية المنتصرة سبع سنوات متصلة، وأسفرت عن استشهاد مليون ونصف المليون من الجزائريين، ورأت وسمعت طيلة تلك السنوات أصوات رصاص الحق والعدل والتضحية، حتى جاء موعد الانتصار على محتلين ظالمين مجرمين، استغلوا تفكك المجتمع وضعف إمكانياته، فاستولوا على كامل خيرات الوطن وجهود أبنائه، وأخذوا كل ما تنتجه الأرض في ظاهرها، وكل ما تحتوي عليه من معادن في باطنها.
ثم بأسلحة بسيطة تستعمل في الصيد وبواسطة تخطيط محكم، وبإرادة فلاذية من المجاهدين الأبرار، الذين كانوا يرددون عبارتي "الله أكبر" و"تحيا الجزائر" في المعارك القتالية والمهمات الفدائية، تحقق افتكاك الاستقلال والحرية، واستعادة السيادة والكرامة.
والسؤال لماذا هذه الثورة؟
لقد جاءت هذه الثورة النوفمبرية ختاما لسلسة من الثورات العديدة التي واجهت المحتلين منذ نزولهم بناحية "سيدي فرج" في 19 جوان1830م، وقد غامروا وأقدموا على الاحتلال، لأجل البحث عن المواد الأولية، والأسواق لبيع ما عندهم من مصنوعات، واغتنموا فرصة تحطيم الأسطول الجزائري في معركة "نافارين" المشهورة، والمعلومات الدقيقة التي لديهم بخصوص اتساع الأراضي الجزائرية، وتنوع خيراتها وتعدد ثرواتها، وأعانهم على الاحتلال، سوء تنظيم المقاومين الجزائريين، وإسناد القيادة لغير الأكفاء، وخطأ تقدير قوة المغامرين المحتلين، وانعدام الاتصالات إذ كانت كل منطقة منشغلة بشؤونها ومتاعب أمورها.
وفي خضم نهب الثروات، ومصادرة الأراضي الخصبة، ومحاولة محو السيادة الوطنية، وطمس مقومات الشخصية، لم يتوقف الشعب الجزائري من ذلك التاريخ 1830م عن التمرد والمقاومة بالسياسة وبالأسلحة الموجودة بين أيديه، وعمت الثورة أنحاء الوطن: غربا الأمير عبد القادر، وشرقا أحمد باي، وتتابعت ثورات بوعمامة والحداد والمقراني ولالا فاطمة نسومر، وقدمت ما يفوق سبعة ملايين من الشهداء خلال سنوات متعاقبة، واختتمت تلك الثورات بشيء من التفكير في الاستعداد الدائم للمقاومة والتمرد.
فاندلعت ثورة نوفمبر 54 المظفرة، وقد استفادت من تجارب وإخفاقات الثورات السابقة التي عجزت عن تحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة والحرية، رغم كثرتها ومحاولاتها العديدة والصادقة.
فهذه الثورة الختامية اتبعت منهجا واضحا، وتنظيما شاملا ومحكما، وحددت هدفا إنسانيا جذابا، واعتمدت على السرية التامة في الدفاع والهجوم، فكانت أصوات الرصاص تنطلق في سبيل الحق والعدل والكرامة والنصر، فأحب الناس تلك الأصوات وأيدوا انطلاقها لأهدافها.